تشريق - 1
اليوم هو أوّل أيّام التشريق؛ لم يعد الحصول على طعام أو شراب يشكّل داعيا للجدل أو العراك بل صار هناك فائض دائم من كل شئ. لم يعد أحد تقريبا يأخذّ أى شئ ليكدّسه بجواره كما حدث فى يوم عرفه بل صار هناك اطمئنان و سكون من هذه الناحيه ممّا دفعنى للتفكير فى الأمر على مستوى الأمم فى وقت أزماتها. فى بداية الرحله كانت هناك مقوله تستفزّنى تقول أن دور الشباب هو خدمة كبار السن. شئ بديهى لا يحتاج لنقاش أن أى إنسان -شاب أو غير شاب- يقدر على تقديم العون لغيره -بغض النظر عن سنّه- يجب أن يقوم بهذا. لكن ما يدهشنى هو تنازل كبار السن عن نصيب وافر من الثواب فى رحله روحيه كهذه لأنّهم يصنّفون أنفسهم تحت راية "كبار السن" رغم قدرتهم على العون !! تغيّر الموقف الآن بصوره واضحه و صار كثيرون من الكبار يعرضون خدماتهم على الجميع و إن كنت بصراحه أخجل من طلب أى شئ منهم خاصة مع تراجع قدرتى على التعاون.
بعد تناول قرصين من المسكّنات ذهبنا لرمى الجمرات؛ اليوم أكثر ضجيجا و زحاما بسبب رمى الجمرات الثلاث. تأمّلت موقع الرمى و وجدته من داخل النفق يشبه عمود من أعمدة الكوبرى و ليس هناك ما يميزه سوى الحجر الذى استخدم لكسوته و الذى قد يكون تشقّق بعد ما ناله من ملايين الحصوات التى تلقى عليه كل عام!! أصبحت خبرتنا فى الموضوع أكبر و اخترنا هذه المرّه موقعا أقرب لمرمى الإصابه بل و توافرت لدينا الفرصه لجمع الجمرات من مكان الرمى نفسه.
تشريق - 2
تقريبا نفس برنامج الأمس. مشكلة قدمى جعلتنى ألحظ أن التجمّع النسائى و إن كان يحمل قدرا من محاولة فرض السيطره -كما قلت لخالى فى بداية الرحله- إلاّ أنّه يحمل نقطه إيجابيه غابت عنّى؛ فهو يجعل من يمر بحالة ضعف و ألم كالتى أمر بها موضع اهتمام و رعاية الجميع تقريبا !! فهذه تعرض مساندتى للذهاب للوضوء و الصلاه و أخرى تحضر لى الطعام و الشاى و هناك الكثير جدّا من السؤال المخلص و الدعوات الصادقه بالشفاء. أشعر بالخجل من نفسى بسبب أفكارى حول كبار السن و الشباب.
ملاحظه: يسألنى كثيرون بفضول مشوب ببعض القلق : إنتى صحفيه؟ متسائلين لماذا أنكب من وقت لآخر على الورق لأكتب شيئا ما !!
بدأت أفقد شهيّتى للطعام تماما؛ لا أدرى هل السبب هو كثرة الشكوى من الطعام نفسه أم التحذيرات العديده التى تلقّيتها بشأن أصناف الطعام التى يجب تجنّبها مراعاة لحالة قدمى والتى لا تترك لى شيئا سوى الماء !! حتى العصائر يجب تجنّبها بسبب المواد الحافظه !! أشعر بافتقادى الاتّزان فى بعض الأوقات و أسأل نفسى هل يمكن أن يشعر الإنسان أنّه قد تطهّر روحيا من ذنوبه و آثامه بينما هو يشعر بحاجته للغمر فى محلول الدى دى تى قبل أن يسمح له بالعوده لمنزله !! لا أدرى لماذا أشعر أن نبرة تشاؤم و تبرّم بدأت تتسلّل إلىّ رغم أن حالة المكان ليست سيئه إطلاقا بل هو أفضل من معسكرات أخرى مررت عليها أمس بعد أن تهنا فى طريق العوده بعد رمى الجمرات لكن يبدو أن المرض يجعل الإنسان فى حالة كآبه و سوداويه لا مبرر لها.
تشريق - 3
أكتب هذه السطور بعد يومين من مغادرتنا "منى". أستطيع أن أقول أنّها أكثر مكان كرهته خلال رحلة الحج. أطلق العنان لنفسى للشعور بهذا الشعور الآن بعد أن خرجنا منها وكنت أكتم شعورى هذا ونحن بها تجنّبا للشعور بالاختناق النفسى حيث لا مفرّ من قضاء الله. ربّما تكون أيام "منى" هى أكثر شئ يجعلنى غير قادره على تصوّر إعادة تجربة الحج مرّه أخرى. أشعر بصدمه شديده لكونى لا أكرر على مسامع من حولى رغبتى فى العوده لأدائها مره أخرى ولا أدعو بها حتى فى سرّى بل أدعو أن تكون هذه الحجّه مقبوله تغنينى عن الحاجه للإعاده. لا أعرف هل هناك خلل ما فى تفكيرى و إحساسى فمعظم إن لم يكن كل من أعرفهم يرغبون فى إعادة الحج مرّه أخرى و أنا لا أستطيع تصوّر هذا أصلا. عانيت بشدّه فى ليلتنا الأخيره فى "منى" بعد اشتداد دور البرد و السعال علىّ و ارتفاع درجة حرارتى إضافة لآلام قدمى و امتلأ نومى بالكوابيس وما يشبه الهلاوس !! اضطررت للتنازل عن رمى الجمرات فى اليوم الأخير ولم أغادر الفراش سوى للصلاه. كانت المفاجأه السيئه حقّا التى فاجأتنا بها الشركه هى أنّنا لن نغادر "منى" بعد الرميه الأخيره و إنّما سنبقى حتى اليوم التالى !! كنت أشعر أنّنا بحاجه لمعجزه إلهيه تنتشلنا من هذا المكان. عافت نفسى الطعام رغم احتياجى له لتناول عدد من الأدويه. كرهت اللحم و الدجاج كراهية التحريم فى "منى" ولم أنظر لأيّهما بعد وصولنا "مكّه" وحتى قبيل مغادرتنا السعوديه كلّها. فى هذا الوقت كانت الأحاديث فى المكان تدور حول موضوع واحد هو : لماذا لا تأخذنا الشركه إلى الحرم كى نبيت ليلتنا هناك !! كانت الفكره فى نظرى هى الأسخف وكنت أرفضها طبعا حين أسأل عن رأيى. ليس فقط لظروف مرضى لكن لعدم آدمية الفكره ككلّ. لا أدرى لماذا يستمرئ كثيرون فكرة النوم و المبيت بالمسجد ولم يأخذونها بهذه البساطه !! و هب أنّهم قادرون على المبيت بالمسجد ماذا عن الراغبين فى الصلاه أو الطواف وما ذنبهم فى أن يعانوا صعوبة أداء المناسك بسبب رغبة البعض فى النوم بالمسجد !! أبدت كثيرات درجه مرعبه من الخنوع و التذلّل وهن يرددن فكرة الذهاب للحرم و النوم هناك ؛ كنت قبل هذا الوقت أبتسم حين أستمع لسيده مصريه تتحدّث بلهجه ريفيه فأشعر بكلماتها تخرج من فمها محمّله بقدر هائل من الاستكانه و الاستسلام كان يدهشنى حقّا إذ أتخيّل أنّها كنت تبكى بنفس الاستكانه و الاستسلام منذ كانت طفله رضيعه!! هذه المرّه لم يكن الأمر مثيرا للابتسام و شعرت أن بالأمر خطأ ما فالاجتهاد فى التقرّب إلى الله لا علاقة له بقبول أوضاع غير آدميه لا تسيئ فقط لمن يقبلها بل تسيئ لغيره كذلك و تضيّق عليهم !!
تحققت المعجزه قبل صلاة المغرب و أصدرت السلطات السعوديه قرارا بإغلاق المعسكر كلّه خلال ساعتين وصار حتميا أن نغادر المكان. بدأت أشعر بتحسّن ما فى صحّتى مع مغادرتنا المكان ونحن بعد فى الأتوبيس الذى سينقلنا إلى "مكّه". علّق أحد الحجّاج داعيا أن تكون هذه آخر مرّه نأتى فيها للحج مع مثل هذه الشركه فردّت عليه إحدى السيدات قائله :
- لأ نيجى مع أوسخ منها كمان (بنفس نص الكلمات)
انفعل خالى متسائلا:
- لماذا؟ هل يجب أن يكون هناك قدر ما من البهدله حتى يرضى الله عنّا !!
فأجابت سيده أخرى بجوار الأولى:
- نحن فى رحله إلى الله يجب أن نتحمّل فيها أى شئ و كتّر خير الشركه.
كنت أتابع الحوار و أنا أبتسم و أحاول إقناع خالى بالتوقّف عن النقاش الذى لن يجدى فهدأ قليلا ثم أنهى الحوار قائلا:
- طيب ابقوا شوفوا لنا اتنين وسخين معاكم !!
كان هذا الحوار داعيا جديدا للتفكير فى هذه الذلّه و الخضوع التى يبدها المصريون إذا ما تعلّق الأمر بطقس دينى !! كانت السيده قد علّقت خلال الحديث مع خالى أنّنا لا نعترض على أى شئ فى مصر فهل صار هذا قدرنا الأبدى !! كانت الكثيرات يبدين شوقا كبيرا للذهاب للحرم ولو للمبيت هناك و السلام و كان لدىّ شك كبير فى هذا الحماس وقد تحقّق شكّى بعد وصولنا للفندق إذ كانت إجراءات التسكين بحاجه لما لا يقل عن ساعتين و اقترح المشرف على الرحله الذهاب لأداء طواف الإفاضه خلال هاتين الساعتين فوجدت من تحمّسوا سابقا للذهاب للحرم ولو للمبيت غير راغبين فيه سوى بعد الحصول على حمّام و تغيير الملابس للذهاب بحاله محترمه !! شئ كان مفروض يكون بديهى جدّا فى غمرة الحماس السابق وكان يفترض بمن يفكّر فى الذهاب للحرم أن يفكّر أنّه بحاجه أوّلا لمكان للإقامه و الاستقرار قبل الذهاب لأى مكان!!
بالنسبة لى كنت أعلم أنّى لن أذهب لأى مكان هذه الليله. كنت أحمل هم ذلك الطواف بشدّه إضافة إلى أنّى كنت قد أجّلت أداء السعى بين الصفا و المروه فى أوّل مره قدمنا فيها إلى مكّه فى يوم الترويه. التحقت بعد مرور ساعتين بزميلاتى السابقات بالمدينه. كانت الحجره مخصّصه لفردين فقط وكنّا أربعه بها على أن نحصل على غرفتنا الأصليه فى اليوم التالى. تقاسمت النوم على فراش ضيّق مع إحدى الزميلات. حين وضعت جنبى على الفراش تلك الليله حمدت الله إذ كان مقدّرا أن نبيت فى "منى" هذه الليله فكتب الله لنا غير ذلك. لم يكن نومى "كوابيس فرى" هذه الليله أيضا و إن كان عددها أقلّ و كنت كذلك أشعر ببعض التحسّن فى حالتى الصحيّه.
استيقظت فى الصباح الباكر على نقاش يدور حول الوقت المناسب لأداء الطواف وفوجئت بذكر اسمى فى الموضوع باعتبارى بحاجه لمن "يسحبنى" لأداء الطواف مع تقريعى لعدم قيامى بالسعى من قبل ممّا يجعل همّى همّين !! لم أكن فى الحقيقه قد طلبت العون من أحد -ولا حتى خالى- فى هذا الشأن لهذا فوجئت باعتبارى همّا يحمله البعض دون سؤاله المشاركه !! أعلنت أنّى لن أقوم بأى شئ هذا اليوم و سأكتفى بالبقاء حيث أنا و تفضّلوا جميعا لشئونكم الخاصّه.
كنت أشعر بضيق شديد لما أصاب قدمى و منعنى من حرّية الحركه كما أريد كما كان الحال فى المدينه :( لا أدرى لماذا كانت "مكّه" أصعب فى استقبالها لنا من "المدينه". كانت زيارتنا الأولى لها فى يوم الترويه كما ذكرت سابقا لأداء طواف القدوم. حول الحرم المكّى منطقه شديدة الزحام و الضوضاء على عكس المسجد النبوى. فى مكّه لا تشعر أن أحدا على استعداد للاهتمام بك أو حتى السؤال عنك؛ حتى داخل الحرم ليس هناك نظام كالذى يوجد بالمسجد النبوى !! لم أجرّب التعامل مع أى محال فى مكّه سوى محال الطعام و إن كنت سمعت من كثيرين عن غلظة معاملة البائعين لهم.
شعرت مرّه أخرى بالضيق لهذه المشاعر السلبيه التى أشعر بهذا فى هذا المكان و التى لم أصرّح بها لأحد و أخشى أن تكون سببا فى ألاّ تقبل حجّتى؛ لكنّى لا أستطيع الوصول لأى حاله روحانيه و أنا أشعر بالألم فى كل خطوه أخطوها ولا يعزّينى سوى رجائى أن يكون الأجر على قدر المشقّه.
عند الظهر خرجت لشراء سندوتشات طعميه و عصير برتقال من أحد المحال المجاوره للفندق "تحوّلت لكائن نباتى جدا حتى ركبنا طائرة العوده لمصر" وحين عدت للفندق كان لدىّ شبه يقين أنّى سأقوم هذه الليله إمّا بالسعى أو الطواف حسبما يتيسّر. بعد صلاة العشاء خارج الحرم -بعد أن صار الدخول إليه و البحث عن مكان داخله رفاهيه لا توفّرها الصحه المترديّه- كان الجهاد الحقيقى فى الدخول للمسجد ضد تيار كاسح من الخارجين منه. وصلت أخيرا لنقطة بداية السعى و بدأت فيه. بدأت السعى و كان دعائى فى الشوط الأوّل أن أستطيع إنهاؤه و إنهاء الطواف و وجدتنى أبكى من حالة اليأس الشديد التى كانت قد انتابتنى من قدرتى على القيام بأيّهما و بدونهما لا يستقيم الحج .. كان هذا من الأوقات التى شعرت فيها بالحاجه الشديد لعون الله و بقدر كبير من الهوان .. لم تكن فكرة أداء أى من السعى أو الطواف على مقعد متحرّك وارده من الأساس على ذهنى بل كانت فكره مثيره للخجل .. كان السعى هو المنسك الأكثر سلاما و جمالا بالنسبة لى فى الحج. استمتعت كثيرا بأدائه و الحمد لله حمدا كثيرا إذ كانت المرّه الأولى منذ زمن التى أستطيع أن أطأ الأرض بقدمى. كان الطريف أن قدمى بعد انتهاء السعى بدت و كأنّها أدركت انتهاء المهمّه أو قد يكون تأثير المسكّن انتهى مع انتهاء السعى فبدأت تضج بالألم مرّة أخرى. عدت للفندق و أنا فى غاية السعاده وقد عقدت العزم على القيام بالطواف فى اليوم التالى.
ملحوظه: كان يفترض القيام بالطواف أوّلا و ليس السعى ..
No comments:
Post a Comment